الليل في الشعر العربي :1. صور الليل في الشعر الكلاسيكي :إن ما يغري الشعراء بالليل، عتمته وغموضه، والسحر المنبثق من أعطافه، فضلا عن البعد عن ضوضاء النهار والصمت المغري بالتأمل والاستغراق، ما يجعل النفوس تطلق هواجسها على مداها الواسع.
وليل الشعراء ليس واحداً، فهو بين طويل وقصير، وهو بين مساحة للحزن والانتظار، أو مساحة للفرح واللقاء، وربما كان فسحة للتأمل أو للعشق أو للذة أو للاستغراق الميتافيزيقي، وربما كان مدى للآلام النفسية أو الجسدية. إن ليل الوجع ليل طويل، أما ليل المتعة فليل قصير.
قال الشاعر:
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنهـــا وهجرة النار يصلينا به النـــــــارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة إن لم يزرني وبالجوزاء عن زارا
ولو تتبعنا الليل كمفردة وكمعنى أو مناخ، في الشعر العربي، لوجدناه ملازماً له من بداياته المعروفة ومرافقاً له في جميع مراحله حتى اليوم. فالليل في الصحراء العربية كان من لزوميات الشعر الجاهلي. لكن الليل بالنسبة للشاعر الجاهلي لم يكن واحداً ومتماثلاً، فلكل شاعر ليله. مثلما إن "كلاً يغني على ليلاه" ... يقول امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأصناف الهمــــوم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبـــــــــه واردف أعجازاً، وناء بكلــــكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجــــل بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فليل امرؤ القيس ليل حسي ... يشبهه الشاعر تشبيهين حسيين يظهران على طرفي نقيض: هو من جهة، كموج البحر تشبيهاً، وهو بعد ذلك كالجمل استعارة ... فينتقل امرؤ القيس في بيتين من الشعر، من البحر إلى الصحراء، في وصفه لليل. لكن امرؤ القيس هو ليل ابتلاء وهموم، فهو مدى وزمان للحزن، وليس مدى للتأمل أو الفرح، ليل أمرؤْ القيس ليل هم، لا ليل رومانسية أو ليل شراب أو ليل حب.
أما الليل الذي يصفه النابغة الذبياني، فهو مدى وجودي كالقدر. يقول مخاطباً النعمان بن المنذر، واصفاً هروبه منه، وأين؟ إنه كالقدر الذي لا فكاك منه.
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت إن المنتأى عنك واسع
والليل الصحراوي على الغالب، ليل قرى، وإيقاد للنار في الصحراء القاسية ، ليستهدي بها الضالون والجياع، من الناس، وحتى من الوحوش فيغدو الذئب صديقاً للإنسان، وتجمع قسوة العيش بين الأضداد المتناهشة، فتتعاطف وتتحاب.
ومن اجمل ما قيل في الليل، كمدى للعاشقين، وفسحة ستر لهما يتمنيان ألا يكشفهما النهار، قول الشاعر الجاهلي عامر بن الحارث النميري:
وود الليل زيد عليه ليل ولم يخلق له أبداً نهاراوالليل كشرط رومانسي للشاعر العاشق الحزين أو للأسير، يظهر في اجمل مظاهره، في قصيدة أبي فراس الحمداني التي قالها وهو في سجن خرشنة من بلاد الروم، ومنها:
إذا الليل اضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
فليل أبي فراس هنا، ما هو ؟
إنه ليل الستر، حيث يطلق فيه الشاعر أسباب الهوى، ويبسط يده فيه... فلا يراه أحد أو يشمت به شامت، وهو ليل يمكن أن يطلق فيه الشاعر دمعه(يذله) فلا يراه أحد أيضاً، ولا ينال من خلائق الكبرياء فيه. والكبرياء تمنع الشاعر من البكاء لكن الليل ستر.
وليل الفرزدق كما يهجوه به الأخطل، هو ستر لغواياته:
لقد ولدت أم الفرزدق فاجراً فجاءت بوزار قصير القوائم
يوصل حبليه إذا جن ليلـــــه ليرقى إلى جـــاراته بالسلالم
ويقول بشار بن برد، وفيه يظهر الليل مضاعفاً بالنسبة لشاعر أعمى كبشار:
وطال علي الليل حتـــــــــــى كأنه بليلين موصول فما يتزحزح
كان الدجى زادت وما زادت الدجى ولكن أطـــال الليل هم مبرحويصف المتنبي الليل في أماكن متعددة من شعره، فهو يشبه مجموعة من النجوم تسمى "بنات نعش" في الدجى بنساء حييات ينظرن بخفر. ووجه الشبه إن ضوء بنات نعش خافت خفيف كنظرات النساء الحييات. يقول:
كأن بنات نعش في دجاها خرائد سافرات في حداد
ويشبه المتنبي في بيت من أبياته، الليل الأسود بعين الظبي. وهو القائل في الفخر ببيته الشهير:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وله بيته الشهير أيضاً في الغزل:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغر بي
ويقول في قصيدة يصف فيها الحمى:
وزائرتي كان بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
أما ليل أبى العلاء المعري، فهو ليل مضاعف وكثيف، ليل فيه زيادة هي زيادة الإحساس الخاص به، إحساس الأعمى بالليل، وهو أيضاً ليل يظهر فيه توفر أحاسيس الشاعر الذي بفقدانه حاسة البصر، زيد له على سائر الحواس حس إضافي، يقول:
يـــا ساهر البرق أيقظ ساهر السمر لعل بالجزع أعواناً على السهـــــر
يود أن ظلام الــــليل دام لــــــــــــه وزيد فيه سواد القلب والبصـــــــر
والنجم تستصغر الأبصــار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر.
صور الليل في الشعر الحديث:
بنقلة طويلة من الزمان، نجد نازك الملائكة الشاعرة العراقية التي أسست مع بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي الحداثة في الشعر العربي، تصدر ديواناً مبكراً لها في ستينيات القرن الماضي بعنوان "عاشقة الليل" فالليل لدى نازك الملائكة هو مطرح رومانسي للعشق. لكن الشاعر الفلسطيني محمود درويش يجعل من الليل رمزاً للمحنة أو الضيق، من خلال ديوانه "آخر الليل نهار".
يطور شعراء الحداثة العربية بعد ذلك، التعامل الإبداعي مع الليل، وينقلونه خاصةً على أيدي كل من أدونيس (علي احمد سعيد) وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، من الإطار الانطباعي، أو الرومانسي الغنائي، إلى مستويات اكثر دلالة وعمقاً. واختيار نماذج من هؤلاء الشعراء الحداثيين، هو اختيار دلالة وتمثيل اكثر مما هو سعي للإحاطة الشاملة بكل ما ورد في الليل وحوله من شعر قديم وحديث. فالليل في الشعر طويل وليس له آخر، سواء أكان ذلك في الشعر القديم أو الشعر الحديث.
الليل الإدونيسي:
رصد الليل ومشتقاته، واستعمالاتها في شعر أدونيس، خاصة في ديوانه " كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار" يضعنا أمام ليل خاص من الشعر، هو ليس بالتأكيد ليلاً انطباعياً، بل هي في الغالب ليل تعبير تجنح به رمزيته نحو اتجاه حلولي حيث العناصر تندمج في ذاتها بجميع نقائضها، وتذوب الحدود الفاصلة بين الليل والنهار، ثم تندمج بعدئذٍ في ذات الشاعر، في ما يسمى فلسفيا بوحدة الوجود. في قصيدة " شجرة النهار والليل" يقول:
ويضيء الليل الصديق
وتنسى نفسها في فراشي الأيام
وهو في دمجه ما بين الأشياء والعوالم والأشخاص، وفي دمجه ما بين المتناقضات، وما بين الداخل والخارج، والذات والعالم، يلخص رؤيته للعالم ( ولليل والنهار) في قصيدة بعنوان "شجرة" :
وكان والسواد في طريقه يضيء
يغير الأسماء
يعشق من مات ومن يجيء
ويهجر الأحياء
...
كل شي يعود
يكتمل التحول
يصير ندياك الليل والنهار
أعرف الآن أين يكون الليل
وحين يجي النهار
وأين يكون النهار
حين يجيء الليل ...
لدى عبد الوهاب البياتي:
الليل لدى عبد الوهاب البياتي كثير، وغزير الاستعمال، فهو تارة انطباعي، وتارة رمزي، وأخيراً هو غناء للطوطم والأسطورة. ليل العالم السفلي. يقول (وليل الشاعر هنا انطباعي). "ما أوحش الليل إذا ما انطفأ المصباح". ويقول " مدن بلا فجر تنام". ويقول في قصيدة "قمر المعرة".
...الليل في معرة النعمان
زنجية على رخام جيدها
قلائد الجمان
وهو يأخذ المعنى من المعري الذي يقول:
ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان
لكن الليل في مواضع أخرى متقدمة من شعر البياتي، يبدأ بالتدريج بالدخول في منطقة الرمز ومنطقة "الما بين". ثم يغدو ليلاً سفلياً أو مكاناً وزماناً للعالم السفلي الذي غاص غليه البياتي، وقبض في أعماقه على الطوطم والسحر والأقنعة في شعره. يقول في "الذي يأتي ولا يأتي" :
من كان يبكي تحت هذه السور؟
كلاب رؤيا سامر مسحور
تنبح في الديجور ...
تبرز هذه الرؤية الطوطمية لليل، في قصيدة "الليل في كل مكان" :
عديدة أسلاب هي الليل في المغارة
جماجم الموتى
كتاب أصفر
قيثارة
نقش على الحائط
طير ميت
عبارة
مكتوبة بالدم فوق هذه الحجارة ...إنها النقلة الجوهرية في شعر البياتي: من الخارج إلى الداخل (مع الليل)، من الانطباعية على الرمز إلى العوالم الغامضة والسفلية.
في شعر صلاح عبد الصبور:
الليل الأكثر جوانية وخصوبة في الشعر العربي الحديث هو ليل صلاح عبد الصبور. إنه ليل الحال. الليل الحزين. الليل المر الطيب المرارة. الشغف الشفاف والإمحاء فيه كأنه الموت الناعم. الموت مع الغيبوبة في أعماق المحيط.
في قصيدة "أغنية لليل" من ديوان "أحلام الفارس القديم" يقول:
الله لا يحرمني الليل ولا مرارته
وإن أتاني الموت فلأمت محدثاً أو سامعاً
في ركني الليلي في المقهى الذي تضيئه مصابيح قديمة
حزينة كحزن عينيها اللتين تخشيان النور في النهار ...
يطور صلاح عبد الصبور رؤيته لليل، في ديوانه "شجر الليل". في قصائد هذا الديوان تختلط أنفاس الشاعر بالليل. يندرج في صمته اللانهائي وسكونه العميق الحزين. بل هو يجر في الوحدة والتأمل واستراق السمع للخفاء. الليل هنا عصب وحلول. يقول في قصيدة "تأملات ليلية":
أبحرت في عيون الناس والأفكار
وتهت وحدي في صحارى الوجد والظنون
غفوت وحدي
مشرد القبضة مشدود البدن
على آرائك السعف
طارق نصف الليل في فنادق المشردين
أو في حوانيت الجنون
سريت وحدي في شوارع لغاتها سماتها عماء
أسمع أصداء خطاي
ترن في النوافذ العمياء
أحس أني خائف
وان شيئاً في ضلوعي يرتجف
وإنني أسقط في كمينوتفصيلات الليل أحواله، وخرائطه، يعرضها صلاح عبد الصبور في قصيدته "أربعة أصوات ليلية للمدينة المتألمة" ومما جاء فيها:
آه .. ليس هو الليل بل الرحم القبر الغابة
ليس هو الليل بل الخوف الداجي أنهار الوحشة
والرعب الممتد
والأحزان الباطنة الصخابة
آه .. ليس هو الليل بل القدر الرؤيا الهولية
وسقوط الحاضر في المستقبل
آه .. ليس هو الليل بل الجرح اليومي ينزف دماً
أسود في الصبح المقبل ...
إلى هنا تنهتي رحلتي مع الليل في الأدب العربي ولكن سيستمر إلهام الليل وحديثه إلى قيام الساعة ... وسيبقى جمال الليل لزاماً لحياتنا اليومية .. لم ولن أوفي حق الليل ببحثي المصغر هذا ورحلتي المتواضعة هذه .. ولكني أتمنى أن أكون قد وفقت في مسامرتكم بهذه اللمحات السريعة لليل في أدب العرب .. وادعوا الله أن يكون سائغاً مستساغاً لذوقكم ..
....................................
بعض المراجع التي استخدمتها في بحثي هذا :
· المحاسن والأضداد .. للجاحظ .
· جواهر الأدب .. للهاشمي .
· ديوان أمرؤ القيس .
· المستطرف في كل فن مستظرف .
· معجم مختار الصحاح _ المعجم الوسيط .
· في ظلال القرآن .. وتفسير الجلالين .
وغيرها العديد والعديد من المراجع ..
[/size]
ولكم مني عبق خالصمع محبتيعبق الربيع